الحمد لله الذي انزل الكتاب هدى للمتقين...الحمد لله الذي يهدي المؤمنين بإيمانهم ويزيدهم به من فضله...الحمد لله المتفضل بنعمة ابتداءً و انتهاءً..أحمده حمداً يليق بعظيم سلطانه وجلال وجهه...و استعينه واستغفره .. و أعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا...و أصلى واسلم على المصطفى المختار المبعوث رحمة للعالمين وبعد:
إن القلب قد يقسوا بالمعاصي وكثرة الغفلة فيحتاج إلى شيء يرققه و يلينه.
يقول تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }الحديد20
في هذه الآيات يبين الله عزوجل إن الحياة الدنيا لعب ولهو,لعب في البدن ولهو في القلب وزينه في الظاهر وتفاخر في اللسان وفي القول كل يفخر على الأخر ويعلو عليه,وتكاثر في الأموال و الأولاد,كل يقول أنا أكثر منك مالاً و أنا أكثر منك ولداً أو أعز نفراً ومثلها كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج "غيث:مطر أعجب الكفار نباته أي ما نبت منه والكفار قيل هم الذين كفروا بالله لأنهم لا يعجبهم من الدنيا إلا مثل هذه المناظر.وقوله ثم يهيج أي يذوب بعد إن كان غضاً نشطاً طرياً فتراه مصفراً يصفر ثم يكون حطاماً يحطم بالأيدي و الأرجل هذه مثل الدنيا ترتفع وتحسن و إذا بها منتكسة قد زالت عن أخرها أو زال الإنسان عنها ولهذا ما في يدك من الدنيا أما إن تزول عنه و أما يزول عنك ولا ثالث لهما .قال تعالى {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}الحديد20
عذاب شديد:لمن آثر هذه الحياة التي هي لعب ولهو وزينه وتفاخر ورضوان من الله لمن آثر الآخرة على الدنيا قال تعالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا{16} وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى{17}الأعلى
وقال تعالى{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}الحديد20
ما الحياة كلها إلا متاع الغرور يغتر بها صاحبها وقت من الزمن ثم تزول فهي غرور تغر صاحبها ويغتر بها و إذا هو وقع خالٍ منها..
وحديث الصحيح يقول سهل قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ,أو غدوة في سبيل الله أو روحه خير من الدنيا وما فيها.
معروف إن موضع السوط مثل العصا متر تقريبا خير من الدنيا وما فيها,الدنيا كلها ليس دنياك التي تعيشها ولا الدنيا التي يعيشها الناس في وقتك,الدنيا من أولها إلى أخرها بما فيها من الأموال والبنين والقصور وغير ذلك,سوط في الجنة موضعه خير من الدنيا وما فيها.
ثم يقول ابن عمر رضي الله عنهما "اخذ رسول صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال:كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"
وكان يقول ابن عمر "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح و إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك,ومن حياتك لموتك".
لما قال ابن عمر اخذ بمنكبه,ذلك من اجل إن ينتبه لما يقول والفرق بين الغريب وعابر السبيل,إن الغريب المقيم في البلد الذي ليس وطناً له,وعابر السبيل الذي مر بالبلد وهو سائر,أي انك لا تتخذ الدنيا وطناً,لأن الناس ثلاثة أقسام:مستوطن وعابر سبيل ومقيم لكنه غريب. فيقول كن في الدنيا كأنك غريب أي مقيم في غير وطنك أو عابر سبيل أي مسافر مررت بالبلد من اجل اخذ حاجه وتمشي والثالث المستوطن بان لا تكن مستوطنا لأنها ليست دار وطن ولهذا تأثر ابن عمر بهذه الوصية فكان يقول "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح و إذا أصبحت فلا تنتظر المساء"
يعنى اعمل ولا تقول اترك عمل الصباح إلى آخر النهار,وعمل آخر النهار لعمل الصباح ,اعمل لا تنظر لأنك لا تدري هل تدرك الصباح إذا أمسيت أو المساء إذا أصبحت, وخذ صحتك لمرضك لأن الإنسان ليس دائماً صحيحاً يمرض فيعجز عن الوظائف الدينية التي كان يفعلها في حال صحته,خذ من صحتك لمرضك, ومن حياتك لموتك,وموتك أطول من حياتك بكثير.
وهذه الوصية "وصية ابن عمر وصية نافعة تزهد في الدنيا. وأما قول بعض الناس عن هذا الكلام انه حديث فهو ليس كذلك ولكن معناه صحيح وهو(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً, واعمل لأخرتك كأنك تموت غداً)أي عمل الآخرة لا تؤخره اعمل كأنك تموت غداً أما الدنيا دعها على التراخي.
يقول علي بن أبى طالب "ارتحلت الدنيا مدبرة, وارتحلت الآخرة مقبلة, ولكل واحدةٍ منهما بنون, فكونوا من أبناء الآخرة, ولا تكونوا من أبناء الدنيا, فان اليوم عمل ولا حساب ,وغدا حساب ولا عمل".
قال تعالى {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }الحجر3
هذا تهديد لهم يعنى ذر هؤلاء المكذبين يأكلوا من نعم الله ويتمتعوا بها ويلههم الأمل ويقول غداً أتوب و إذا بالأجل قد حضر فسوف يعلمون. وفي الأمل الذي منشغل به الإنسان يقول عبد الله رضي الله عنه: خط النبي خطاً مربعا, وخط خطاً في الوسط خارجاً منه, وخط خطوطاً صغارا إلى هذا الذي في الوسط وقال:هذا الإنسان وهذا اجله محيط به أو قد أحاط به وهذا الذي هو خارج أمله وتلك الخطط الصغار الإعراض, فان أخطاه هذا نهشه هذا ,وان أخطاه هذا نهشه هذا) إن الإنسان كل ما كبر زاد حبه للدنيا وزاد أمله فتجد العمر غالي عند الكبير رخيص عند الصغير يبذل نفسه لا تهتم يقول النبي (يكبر ابن ادم ويكبر معه اثنتان حب المال :وطول العمر)
ويثقل على المؤمن في هذه الدنيا إن يفقد صفيه والصافي من صفوة الناس عنده كالابن ـ والبنت ـ والأب ـ والأم ـ وما اشبه ذلك
يقول تعالى في الحديث القدسي(ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفية من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) ومعنى احتسبه أي قصد ثواب الآخرة.
فكل أمر في الدنيا قد يقصد به ثواب الآخرة يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض؟ قيل وما بركات الأرض؟ قال زهرة الدنيا فقال له رجل :هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي حتى ظننت انه ينزل عليه ثم جعل يمسح عن جبينه, فقال:أين السائل؟قال أنا: قال لا يأتي الخير إلا بالخير إن هذا المال خضرة حلوه, وان كل ما انبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم , إلا أكلة الخضرة أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت و ثلطت وبالت ثم عادت فأكلت, وان هذا المال حلوه من أخذه بحقه ووضعه في حقه, فنعم المعونة هي, وان أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع.
حلوه: رطب كل النفوس تشتهيه كما تشتهي البهيمة الزرع الأخضر.
حلوه: في المذاق فهو جميل في المنظر لكونه اخضر حلو المذاق فالنفوس سوف تنكب عليه.
إن كل ما ينبت الربيع يأكل حبطاً أو يلم
أي يقتل تأكله البهيمة فيقتلها حيث يحصل لها انتفاخ في البطن ثم تموت ويقال أنها أكلت الربيع.
إلا أكلة الخضرة= يعنى التي تأكل بهدوء ولا تأكل كل ما أمامها لان التي تأكل كل ما أمامها ربما تأكل شيئا يقتلها,لكن أكلة الخضرة التي تأكل ما تنتفع به فقط.
عندما يموت العبد يحاسب على المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه فالموت جسر بين الحياتين حياة الدنيا الفانية وحياة الآخرة الخالدة والدنيا مزرعة للآخرة فمن عمل صالحاً في دنياه نجا من سوء الحساب والعذاب في الآخرة ومن عمل سوء كان من المعذبين في نار جهنم إلا أن يعفوا الله عنه .فالمستحب لكل إنسان ذكر الموت والاستعداد له لقوله (أكثروا من ذكر هادم اللذات). ولما روى البراء بن عازب أن النبي أبصر جماعة يحفرون قبراً فبكى حتى بل الثرى بدموعه وقال: (إخواني لمثل هذا فأعدو أي اتخذوا إليه العدة و تأهبوا له)
والله اعلم